تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 203 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 203

203 : تفسير الصفحة رقم 203 من القرآن الكريم

** وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان, ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم, قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية, وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة, هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الاَية, {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا ؟ فقال: أبي بن كعب, فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه, فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الاَية هكذا ؟ قال: نعم. قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا, فقال أبي تصديق هذه الاَية في أول سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} وفي سورة الحشر {والذين جاءوا من بعدهم} الاَية, وفي الأنفال {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا معكم} الاَية, ورواه ابن جرير, قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفاً على والسابقون الأولون, فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان, فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم, ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه, فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم. عياذاً بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة, فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله, ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون, ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.

** وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ
يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون, وفي أهل المدينة أيضاً منافقون {مردوا على النفاق} أي مرنوا واستمروا عليه, ومنه يقال شيطان مريد, ومارد ويقال تمرد فلان على الله أي عتا وتجبر, وقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} لا ينافي قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها, لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين, وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً وإن كان يراه صباحاً ومساء, وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن رجل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه, قال قلت: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة فقال: «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال «إن في أصحابي منافقين» ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم, وتقدم في تفسير قوله {وهموا بما لم ينالو} أنه صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقاً, وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم, والله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عمر البيروتي من طريق هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا ابن جابر, حدثني شيخ ببيروت يكنى أبا عمر, أظنه حدثني عن أبي الدرداء أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان ههنا وأشار بيده إلى لسانه, والنفاق ههنا وأشار بيده إلى قلبه, ولم يذكر الله إلا قليلاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل له لساناً ذاكراً, وقلباً شاكراً, وارزقه حبي وحب من يحبني, وصير أمره إلى خير» فقال: يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأساً فيهم أفلا آتيك بهم ؟ قال: «من أتانا استغفرنا له, ومن أصر فالله أولى به, ولا تخرقن على أحد ستراً», قال وكذا رواه أبو أحمد الحاكم عن أبي بكر الباغندي عن هشام بن عمار به, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في هذه الاَية أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس, فلان في الجنة وفلان في النار, فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس, ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك, قال نبي الله نوح عليه السلام {وما علمي بما كانوا يعملون} وقال نبي الله شعيب عليه السلام {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لا تعلمهم نحن نعلمهم} وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الاَية قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق, واخرج يا فلان إنك منافق» فأخرج من المسجد ناساً منهم فضحهم, فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا, واختبأوا هم من عمر ظنوا أنه قد علم بأمرهم, فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا, فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم, قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد, والعذاب الثاني عذاب القبر, وكذا قال الثوري عن السدي عن أبي مالك نحو هذا.
وقال مجاهد في قوله {سنعذبهم مرتين} يعني القتل والسبي, وقال في رواية بالجوع وعذاب القبر, ثم يردون إلى عذاب عظيم, وقال ابن جريج عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم النار, وقال الحسن البصري: عذاب في الدنيا وعذاب في القبر, وقال عبد الرحمن بن زيد: أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد, وقرأ قوله تعالى {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدني} فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر, وعذاب في الاَخرة في النار {ثم يردون إلى عذاب عظيم} قال النار, وقال محمد بن إسحاق {سنعذبهم مرتين} قال: هو فيما بلغني ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة, ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها, ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الاَخرة والخلد فيه, وقال سعيد عن قتادة في قوله: {سنعذبهم مرتين} عذاب الدنيا وعذاب القبر {ثم يردّون إلى عذاب عظيم} وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين, فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره, وستة يموتون موتاً, وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم, نظر إلى حذيفة فإن صلى عليه وإلا تركه, وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أمنهم أنا ؟ قال لا ولا أومن منها أحداً بعدك.

** وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
لما بيّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيباً وشكاً, شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم بالحق, فقال {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم, ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه, وهذه الاَية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين, وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه, وقال ابن عباس {وآخرون} نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه, وقيل وسبعة معه, وقيل وتسعة معه, فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أنزل الله هذه الاَية {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم, وقال البخاري: حدثنا مؤمل بن هشام, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا عوف, حدثنا أبو رجاء, حدثنا سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء, وشطر كأقبح ما أنت راء, قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة, قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك, قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح, فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم» هكذا رواه البخاري مختصراً في تفسير هذه الاَية.

** خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون, وإنما كان هذا خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم, ولهذا احتجوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} الاَية, وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد, أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى قال الصديق: والله لو منعوني عناقاً ـ وفي رواية عقالاً ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه, وقوله {وصل عليهم} أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» وفي الحديث الاَخر أن امرأة قالت: يا رسول الله صل عليّ وعلى زوجي, فقال «صلى الله عليك وعلى زوجك» وقوله: {إن صلاتك سكن لهم} قرأ بعضهم صلواتك على الجمع وآخرون قرأوا إن صلاتك على الإفراد {سكن لهم} قال ابن عباس: رحمة لهم, وقال قتادة وقار, وقوله: {والله سميع} أي لدعائك {عليم} أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له, قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده, ثم رواه عن أبي نعيم عن مسعر عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة, قال مسعر: وقد ذكره مرة عن حذيفة إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده.
وقوله {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها, وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه, ومن تصدق بصدقة من كسب حلال, فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تصير التمرة مثل أحد, كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الثوري ووكيع كلاهما عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد, أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه قيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره, حتى أن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} وقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وقال الثوري والأعمش, كلاهما عن عبد الله بن السائب عن عبد الله بن أبي قتادة قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, إن الصدقة تقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل, ثم قرأ هذه الاَية {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} وقد روى ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عبد الله بن الشاعر السكسكي الدمشقي وأصله حمصي, وكان أحد الفقهاء, روى عن معاوية وغيره, وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي قال: غزا الناس في زمان معاوية رضي الله عنه وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد, فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير فأبى أن يقبلها منه وقال: قد تفرق الناس ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة, فجعل الرجل يستقري الصحابة فيقولون له مثل ذلك, فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبىعليه, فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع, فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال له ما يبكيك ؟ فذكر له أمره, فقال له: أو مطيعي أنت ؟ فقال: نعم, فقال اذهب إلى معاوية فقل له اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين ديناراً وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش, فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم, ففعل الرجل, فقال معاوية رضي الله عنه: لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه, أحسن الرجل.

** وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
قال مجاهد: هذا وعيد يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} وقال تعالى: {يوم تبلى السرائر} وقال: {وحصل ما في الصدور} وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا, كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان» وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ, كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم, فإن كان خيراً استبشروا به, وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك» وقال الإمام أحمد: أنبأنا عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنساً يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيراً استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا».
وقال البخاري قالت عائشة رضي الله عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرىء مسلم فقل {اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وقد ورد في الحديث شبيه بهذا, قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له, فإن العامل يعمل زماناً من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً, وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيء لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً, وإذا أراد الله بعبده خيراً استعمله قبل موته» قالوا: يا رسول الله وكيف يستعمله ؟ قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه» تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه.

** وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغير واحد: هم الثلاثة الذين خلفوا أي عن التوبة, وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية, قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلاً وميلاً إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال لا شكاً ونفاقاً, فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه, وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون, فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجي هؤلاء عن التوبة, حتى نزلت الاَية الاَتية وهي قوله {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} الاَية, {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} الاَية, كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك, وقوله {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} أي هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا وإن شاء فعل بهم ذاك, ولكن رحمته تغلب غضبه {والله عليم حكيم} أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو, حكيم في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه.